جون كينيدي... 50 عاماً من الغياب 50 عاماً من الحضور

كان يوماً مشمساً رغم الغيوم البادية في سماء دالاس، اختارت جاكي فستاناً وردياً أنيقاً كعادتها، بقبعة رقيقة وقفازات راقية من اللون نفسه، وظهر جون بكامل هيبته كرئيس الولايات المتحدة، من دون أن يخل بمرحه الذي منحه تلك الكاريزما الشهيرة، وحب الجماهير الأسطوري له، ورغم الجو الخريفي الرائع في ذلك اليوم الثاني والعشرين من نوفمبر عام 1963، مرت غيمة قاتمة على قلب جاكي، وشعرت أن هذا اليوم لن يكون جميلاً كما يبدو، نظرت إلى وجه زوجها طويلاً وكأنها تريد أن تحتفظ بملامحه في عينيها إلى الأبد، غصة ما تقف في حلقها وتمنعها من أن تقول أي شيء، تتمنى أن يجد أي جديد لإلغاء هذه الزيارة الرسمية لتكساس، ولكن للأسف هذا لا يحدث. ينطلقان معاً نحو القدر المحتوم، وتغيب الشمس الساطعة فجأة خلف تلك الرصاصة الغادرة، والصرخات التي انطلقت تعبئ المكان، وذلك الهرج والمرج الذي صاحب السقوط، نعم، لقد سقط الرئيس الشاب صريعاً في لحظة، ولم يكن قد تجاوز من سنوات حكمه الأربعة أكثر من ألف يوم، وأدركت جاكي فجأة ما سر تلك الغصة في حلقها، ولكن بعد فوات الأوان.
 
وُلد جون فيتزجيرالد كينيدي في التاسع والعشرين من مايو 1917، في بروكلين بولاية ماتسوشستس، وكان الثاني في ترتيب الأبناء الذين وصل عددهم إلى 9! لم يكن الطفل جون يتمتع بصحة جيدة، بل تعرض لأزمة صحية كبيرة قبل أن يتم الثالثة من عمره، كادت تودي بحياته، وبعد تجاوزها كان والداه يداعبانه بجملتهما الشهيرة "لو أن ناموسة حاولت مص دماء جون، فإنها هي من ستموت بسبب ضعفه وكم الأدوية التي تناولها"، إلا أن كل هذا لم يفتّ من عضد جون، الذي كان طموحه يتجاوز كل خيال.
 
نجح جون في الالتحاق بجامعة هارفارد، وتخرج في عام 1940، ثم التحق بالقوات البحرية الأميركية عام 1943، وشارك في الحرب العالمية الثانية، وأثبت من خلالها شجاعة وقوة كبيرة، وساهم في إنقاذ زملائه، عندما قذفت القوات اليابانية القارب الذي كان يحملهم.
 
بعد الحرب، التحق جون بالحزب الديموقراطي، ونجح في الوصول إلى الكونغرس عام 1953، نائباً عن بوسطن، وفي نفس العام تزوج من الجميلة Jacqueline Bouvier التي أصبحت بعد ذلك جاكلين كينيدي، وفي عام 1955، وبعد إجراء جراحة في ظهره، وبينما هو يتعافى، كتب مقالاً بعنوان "لمحات في الشجاعة"، والمفاجأة أن ذلك المقال حصل على جائزة بوليتزر الصحافية الرفيعة.
 
صعد نجم كينيدي سريعاً في أرجاء الحزب ومجلس النواب، ونجح عام 1956 في الترشح كنائب للرئيس، ما أهله بعد أربع سنوات في خوض الانتخابات بنفسه كرئيس للولايات المتحدة أمام ريتشارد نيكسون الجمهوري المخضرم، وكانت المناظرة التاريخية بينهما على شاشات التليفزيون في ذلك الوقت، حدثاً لا ينسى، رفع أسهم المرشح الشاب الذي لم يتجاوز الرابعة والأربعين من عمره، في مقابل خبرة نيكسون، وكان أن أصبح أصغر رئيس منتخب للولايات المتحدة، وحصل على لقب الرئيس رقم 35 وسط آمال عظيمة وطموحات لا محدودة، من أمة تسعى لتسيد العالم في ذلك الوقت.
 
استطاع كينيدي أن يحقق في ألف يوم كثيراً من وعوده للشعب الأميركي، ونجحت أزمة الصواريخ الكوبية الشهيرة بينه وبين الاتحاد السوفيتي السابق، في رفع أسهمه بين الشعب بدرجة غير مسبوقة، فأشارت استطلاعات الرأي إلى ارتفاع شعبيته من 66% إلى 77% في ذلك الوقت، وبدا أنه خطا خطوة كبيرة في طريق الدولة العظمى، وأطلق وعده الشهير بإنزال انسان على سطح القمر، وحقق كثير من الإنجازات على مستوى الاقتصاد والصحة والتعليم، ما جعله أسطورة أميركية باقية حتى اليوم، لا يستطيع أي مرشح النجاة من فخ المقارنة به، كما حدث مع بيل كلينتون وباراك أوباما.
 
أنجب جون طفلين من زوجته الجميلة جاكلين، هما كارولين وجون الابن، والذي تركهما أطفالاً صغاراً، ولا ينسى العالم مشهد جون الصغير وهو يؤدي التحية العسكرية لجنازة والده، وهو المشهد الذي أبكى الملايين، بعد أن اغتالت يد ليهار فياوسولد فرحتهما، وقتلت والدهما.
 
أما عن الاغتيال، فمازال السر وراءه يشغل العالم حتى هذه اللحظة، أشارت أصابع الاتهام إلى كل المحيطين بالرئيس بداية من نائبه ليندون جونسون، إلى المخابرات الأميركية CIA، وحتى سائق سيارته، وكل البعيدين عن الرئيس من المخابرات السوفيتية KGB إلى الموساد الإسرائيلي –حيث كان كينيدي مصراً علي تفتيش مفاعل ديمونة في ذلك الوقت - إلى الجماعات المتطرفة من الماسونيين والمتنورين، ومازالت القائمة مفتوحة وطويلة، ومازال السر الغامض يحمل بامتياز لقب "سر القرن العشرين"، وتناولته كثير من الأفلام السينمائية التي لم تصل أيضاً إلي أي نتيجة، إلا أن الحقيقة الوحيدة في ذلك الأمر هو أن جون كينيدي قد قُتل، ورغم ذلك فهو مازال حياً في قلوب كل الأميركيين الذين أحبوه، حتي بعد مرور خمسين عاماً على اغتياله.