المكان الذي أحب

المكان الذي أحب

ما هي أكثر الأماكن جاذبية بالنسبة لكم.. شاطئ بحر.. حقول خضراء على مد البصر.. كوخ جبلي محاصر بالثلوج.. ليل بادية بكر.. حديقة منزل الطفولة؟

 

أحبها كلها.. لكن بالنسبة لي هناك مكان لا أستطيع مقاومة سحره، وأشعر بمتعة حقيقية فيه، وهو المكتبة.

 

المكتبة هي المكان الذي أستطيع أن أنطلق منه إلى كل تلك الأماكن، وأنا جالسة في كرسي وثير. لا إغراء يضاهي ومضات عالم كامل مختبئ بين دفتين صغيرتين.. يحملك في دقائق إلى الماضي البعيد أو إلى المستقبل، إلى الفرح أو الحزن.. يخاطبك باللغة التي تريدها.. بالشعر أو بالمعادلات الرياضية.. بالعربية أو الأعجمية.. لا تفرغ جعبته من الأقاصيص.. قصص الخيال أو حكايات الأولين.. مكتشفات العلم أو حتى “حواديت” الأطفال.. كأن الكتاب خيط يربط بين البشر عبر الأزمان.. ألا نحاور من رحل منذ مئات السنين، وندخل أعماقه من خلال كتاب؟ كم كان عظيماً من اخترع الحرف.

 

الكتب أكوان متوارية بين أوراق، والقراءة تبسط آفاقها، وتتيح لأرواحنا أن تجوبها، أليست متعة أن يكون لدينا صديق صبور يتكلم حين نريد ويصمت حين نشاء.. لا يتذمر من إهمال.. ولا يثرثر بأسرارنا.. يخاطب أرقى ما فينا “العقل”.. وهل هناك أكثر من رياضة الفكر متعة؟

 

صديق لي ممن يتقنون هذا الفن سأله أحد طلابه عمّا إذا كان يمتلك منزلاً، فأجاب بعفوية: لا ليس لدي منزل خاص، ولكن لدي مكتبة تضم مجموعة كبيرة من الكتب القيمة. ومن يجيد استخدام نعمة القراءة يعرف كيف تكون المكتبة العامرة وطناً حقيقياً.

 

أحببت القراءة منذ طفولتي.. ربما كان طبعاً.. وربما كان اعتياداً بحكم بيئة لم “تتمتع” بوسائل الترفيه، التي تحاصر أطفال هذا الجيل.. “ولكننا نقرأ من خلال الشبكة الإلكترونية”.. إجابة تدافع عن جيل لا يقرأ غالباً إلا كتبه المدرسية.

 

لا شيء يعوض متعة احتضان الكتاب بين يديك.. واستلقاءه في حضنك واستمتاعك بملمسه وحتى رائحته.. أن تشعر به.. أن تحترمه كي تنشأ بينكما تلك العلاقة الخاصة، التي أحبها ولا أعرف كيف أصفها.

 

ورغم أني تجاوزت منذ زمن بعيد مرحلتي المدرسية، لكن حبوراً حقيقياً يملؤني لدى دخولي المكتبات، وتحديداً قسم اللوازم المكتبية، التي تباع فيها.. تطلق أجنحة مخيلتي.. أقف مبهورة أمام قسم الأقلام.. كم تثير شهيتي للكتابة.

 

أفكر بشلالات الأشكال التي يمكن أن ترسمها كل تلك القطع الخشبية الصغيرة الملونة.. وطوفان الكلمات التي ستتشابك على سطور كل تلك الدفاتر.. تعيدني رائحة الممحاة إلى طفولتي.. تنعش ذكريات لا يمكن محوها.. أليست هذه الأمكنة مكمن الإبداع ووعود بلا حدود لما لا نستطيع حتى تصوره؟

 

قبل فترة في إحدى طرقات مدينة أوروبية، التقيت صدفة بشاب من بلدي تربطنا أواصر الصداقة، ونشترك في أشياء كثيرة منها هوس المكتبات.. ولما كانت لدينا بضع ساعات نقضيها معاً قبل موعد طائرتي، فقد دعاني إلى مكتبة.

 

لم أستمتع بدعوة قط كتلك الدعوة.. افترقنا ما إن خطونا داخل المكان.. غرق كل منا في العوالم التي يحب.. قبل أن نلتقي ثانية بعد ساعتين عند باب الخروج.. لأشد على يده مصافحة بامتنان حقيقي.. ارتبك بعض الشيء، وتردد قليلاً قبل أن يخبرني أنني السيدة الوحيدة التي شكرته بهذه الحرارة على اصطحابها إلى مكتبة.. لكنني كنت صادقة.. لقد استمتعت حقاً بتلك الدعوة.

 

لم أغادر مرة مكتبة إلا وقد أفرغت ما في حقيبتي من نقود، وغالباً ما تكون معظم الأشياء التي اشتريتها بالمفهوم الشائع “غير ضرورية”، ولم أدخل مكتبة قط إلا وعبرتني الأفكار التي ثرثرت بها هنا.. وها أنا قد دونتها أخيراً تدشيناً للقلم الجديد، الذي ابتعته هذا الصباح.. أليس مبهراً أن توصل قطعة الخشب الصغيرة هذه ما في داخلي إليكم؟

 

 

 

خاص بــــ

ريم عبد الغني
حرم الرئيس اليمني الجنوبي السابق علي ناصر محمد

 

 رئيسة مركز «تريم للعمارة والتراث»
[email protected]