أحن إلى خبز أمي

أريج عراق ابتسامتها الصافية، وعيناها البريئتان، كانت أميز صفات وجه أمي الصبوح. لا أستطيع القول أنها ما تبقى في ذاكرتي عنها، فهي لم تغب عن عيني يوماً منذ رحيلها المؤلم في ذلك اليوم الحزين منذ سنوات ثلاث، فلم يزل طيفها موجوداً في كل الأركان، أراها دوماً وهي تؤدي فرض صلاتها الذي لم تنقطع عنه يوماً منذ بدأت أعي الأمور، أراها وهي تحضر لنا الطعام بوقفتها الشامخة في المطبخ من دون كلل أو ملل، أشعر بلمستها عندما كانت تربت على شعري وأنا نائمة أو مريضة، وصوت دعواتها يتسلل من أذني إلى قلبي مباشرة من دون حواجز. كانت أمي نموذجاً مثالياً لفكرة الأم كما تعلمناها دوماً، دفق لا ينتهي من الحنان والعطف، حضنها يتسع لكل آلامي وأحزاني، ابتسامتها قادرة على أن تمحو كل الهموم، تملك قدرة عجيبة على إيجاد الحلول لأعتى المشكلات، هكذا كانت، وهكذا ظلت حتى آخر أنفاسها الكريمة. حالة من العجز الشديد انتابتني عندما بلغني الخبر، كنت أشعر أن شيئاً ما سيحدث، ولم يمر بخاطري –في أسوأ كوابيسي- أنه يمكن أن ترحل، ليس رفضاً لأمر الله ولكن كانت أمي بالنسبة لنا جميعاً –أبي وأخي وأنا- أمراً واقعاً، لايمكن تخيل الحياة بدونها، هي دائماً هناك إذا استعصى علينا أمر، أو أتعبتنا الحياة بمقتضياتها الغريبة، لم نعتد على مواجهة أي مشكلات، فهي كانت تنتهي منها قبل أن نلحظ وجودها، ننظر إليها بتعجب، ونعتقد أنها لا تفعل شيئاً، ثم اكتشفنا فجأة أنها كانت كل شيء، اكتشفنا أن أمي كانت هي البيت، كانت هي الوطن، لم يعد هناك بيت، باتت الغربة تسكننا. اكتشف أبي ذات صباح أن تفاصيله الصغيرة لم تكن تتم من تلقاء نفسها، وأن أريج تصنع الكثير وتبذل مجهوداً عظيماً، ولكنها في النهاية، لا تصنع شيئاً، كان للبيت رائحة مميزة، اختفت برحيلها، وأصبح بيتنا العامر بالضحكات، مرتعاً للأشباح، وأشبه بمكان مهجور، لا يزيل من كآبته، إلا طيفها الذي يمر بنا بين لحظة وأخرى يشع بهاء، فنبتسم، ثم نبكي. أسمع صوت آذان الفجر، فأتذكرها عندما كانت تستيقظ من تلقاء نفسها لتؤدي الفرض، وأسمع صوت خطواتها الرقيقة، فأنتظر أن تمر بغرفتي لتطمئن عليّ وتضع علي الغطاء الذي أزحته، فلا تأتي، فأبكي وأضم ابنتي إلى صدري، علّها تعوضني عن الحضن الذي افتقده، وأضع الغطاء على جسدها الصغير، وأرفع رأسي إلى السماء لأسألها، هل أصلح أن أكون أماً جيدة مثلما كانت هي أماً رائعة؟ فتطل عليّ ابتسامتها، وكأنها تخبرني أن هناك الكثير مما يجب أن أفعله. أخبرتها يومأ أنني لا أرغب أن أكون مثلها عندما أكبر، فنظرت إليّ بتعجب، بل واستنكار، ويبدو أنها شعرت بنوع من الإهانة في كلمتي، وسألتني بأسى عن السبب، فأخبرتها أنها تفني عمرها من أجلنا، ولا تفعل شيئاً لنفسها، فابتسمت بهدوء، وأخبرتني أنني سأعرف قيمتها بعدما ترحل، ولم أنتبه لقسوة الكلمة إلا بعد رحيلها فعلاً، وأجدني اليوم أحاول بكل طاقتي أن أقارب ما كانت تفعله، فأقف عاجزة، تائهة، أناديها كي تأخذ بيدي مثلما كانت تفعل دوماً، فلا أجد أي مردود، فأبكي. يسكنني سؤال تمنيت أن أعرف إجابته منها، فلم يحدث، ولا أظنها هي أيضاً كانت تعرف الإجابة، ماهو السر وراء كل تلك البراءة الكائنة في عينيها؟ برغم آلام المرض وقسوة السنوات، ومعارك الحياة، لم تختف هذه البراءة يوماً، كانت تبدو دوماً وكأنها طفلة صغيرة، لم تخبر تفاصيل الحياة الشريرة، وأظنها كانت ستضحك بملء فيها من سؤالي، دون أن تجيب، وأظن الإجابة كانت تكمن في قلبها الصافي وروحها الحرة، وارتضائها بدورها دون شكوى أو اعتراض، كانت حقاً تؤمن بأنها تؤدي دورها، فتفعل كل شيء بسعادة وحب، فيال هول الفراغ الذي تركته في روحنا يا أمي عندما قررت الرحيل. لايسعني في هذا اليوم، إلا أن أستمع لكلمات محمود درويش يقول "أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي .. ولمسة أمي" وأشعر كم هرمت فجأة عندما غابت عني لمستك، فأرى وجهك البشوش يطل عليّ بابتسامته الصبوح ونظرته البريئة، فأبتسم، وأبكي. كل عام وأنت حاضرة في قلبي وعيني، دون غياب.